أيامٌ بعد غزّة؟

تتضاءل الأحداث والكلمات والمشاعرُ كلها عند ذكر غزة، بل لقد تضاءلت للأبد هذه المرة، فغزةُ صارت واقعا حاضرا دوما، لقد استردّت الأشياء معانيها الحقيقة، فالنزل الهادئ على ضفة النهر هو مجرد نزل، ومشهد الشروق الأثير محضُ شروق ليس غير! والزوارق سائرة مع الشمس قرب طلوعها مجرد ألواح من الخشب على صفحة نهرٍ يحمل ناسًا، والمنازل الرائعة حول النزل فقدت الرغبة لتوصيف روعتها وجلالها إذ ما هي إلّا محضُ حجارةٍ، القصور التي مررت بها والأشجار الباسقة على ضفتي النهر، والمنازل شرفاتها في قلب النهر ناظرةً، وسماءُ الصبح البراقةِ حينا والقرمزيةِ أحيانا، صفحة النهر يعلوها البخار، البقعة الهادئةُ تحت الجسر، الناس يغدون ويروحون، كلّها صارت مشاهدَ لا تستدعي طويل وقوفٍ عندها، عاديةٌ دنيوةٌ مصيرها الزوال لم تعدْ تحمل كلّ تلك المعاني، والغريب أنّها لا تبدو كذلك اتصالا بأحداث غزة فقط؛ الأمرُ أبعدُ من هذا هذه المرة، وكأنّ روحا ولّت دونما عودة من قلب تلك المعاني، وغدت الأشياء في النهايةِ مجرّد أشياء، وإنّني لأتساءل أهي روح قد انتزعت من لبّ كلّ شيء أم أنّ غشاوة على بصري وقلبي هي من انقشعت!

ثمانون يوما من الحرب كانت أكثر من كافية لانتزاع رونق الصباحات وسحر الأماسي، ثمانون يوما من الدم كانت كفيلةً لإظهار حقيقة الدنيا وتعرية النقاب عن زيفها، لم يعد الاستغراق في الطبيعةِ ذا بال، ولا ثمّة رفاهيةٌ للتمهّل في حضرة جمال أو قرب أطلال.

ولئن كانت هذه مشاعري وأنا البعيدةُ جدا، ولم أحمل جثةً بيدي، ولا لطّخ الدم ثوبي، ولا تكدس الموتى في شارع منزلي، لم أفقد أمي أبتي أو إخوتي، وعمومتي وكلّ أقاربي، منزلي صامدٌ لم يمسّ، أغفوا في سلام، وأصحوا وفي بيتي طعام وشراب وأحبّة، فعن أيّ شعور أحدثكم وأين هو النواح من الثُّكل!

حين تنتهي الحرب سيصير لدى أبناء غزة وقتٌ لكي يدركوا ما حدث معهم، سيكون وقع ذلك الإدراك أثقل مما حملوه يوما، ستصعقهم لسعة الفقد مجدّدا بعد انقضاء الحرب، سيشاهدون الحجم الحقيقي للدمار، سبتكي الأم ولدها هذه المرّة، وستمسد الحبيبة قبر زوجها، وسيروي الأب لابنه ما صنع هو إخوته من بعدها، سيمضي الفاقد لانتزاع أحبته من بين الركام، ستكون لديهم الساعات الطويلة للوقوف زمانا أمام ذلك الألم، وفي لحظةٍ بعيدة سيدركون الروح الجديدة المنبثقة في دواخلهم، البعض سينهزم أمامها وسيمضي بقية حياته صامتا، والبعض ستظل تلك الروح جذوة أنفاسه وسكناته وسيثأر لكلّ شيء، والبعض سينسى، لكنه نسيان لا كما النسيان.

كلما أمسكت هاتفي لأصف مشهدا أو أحدّث بجمالِ شيء شعرتُ بتفاهةِ ذلك الشي، ودونيته البارزة، تلاشى رونق الأشياء وحلّ محلّها الجدّ، لكن المؤلم أنّ شيئا واحدا في نفسي لم يتغير، ثمّة تيه مستطيلٌ في داخلي لا يد يمكن أن تستردني منه غير يد القوةُ والعرك، كان هذا الإدارك يحيط بي دوما لكن أملا في داخلي كان يردّه في كلّ مرة ويحاول استنهاضي مئات المرات تلو مئاتٍ أخرى، شعرتُ على الدوام أنّني غيرُ كافية، متأخرة بأميال عما ينبغي، ميالةٌ للخطأ، مقيمةٍ فيه أحيانا، ثقيلةٌ عليّ حركةُ النهوض، والأشدّ وطأة منها القدرة على الثبات، قضيتُ سنواتي الأخيرة في معترك عظيم بين هذين المعنيين: النهوضِ والثبات، وكانت الدّعة تلتقطني بسهولةٍ من بينهم، فوا أسفاه على ما مضى، و يا عونُ الإله على ما يقبِلُ.

أضف تعليق